هبة أحمد الحجاج
مررتُ ذاتَ يومٍ على حديقةّ تَسحرُ العينين , فالأشجارُ تُغطيها من بعيدٍ بشكلٍ جميل، و لما اقتربتُ منها رأيتُ مالم تراهُ عينَاي من قبل , رأيتُ الأرضَ الخضراءَ قد لبستْ ثوباً من الزهورِ الملونةِ من كلِ شكلٍ و نوع , و رأيتُ العصافير تُعبرُ عن إعجابها بالزهورِ بغنائِها الجميل، و يتبعُها صوتُ جريانِ النهرِ و على حاشيتِه تمركزتْ الصخورُ المبللةُ و بعضُ النباتاتِ المائية التي امتلأت بقطراتِ الندى البراقة ، فقررتُ أن أنزل من سيارتي الخاصة ، وأدللَ نفسي بعضَ الشيء، حيثُ أنني أتعبتُ نفسي في إنجاز الأعمال , فدخلتُ إلى البابِ “الرواق “الذي يدخلُ منهُ الزوار , فقد امتدَ إلى آخرها مزينٌ بالورودِ، و من جهة آخرى النهرُ امتد على شكلِ جسرٍ طويل، لقد فتنَ هذا المنظرُ أنفُسَ العابرين و أنا كُنتُ منهم.
فقد كانتْ تلكَ الحديقةُ أشبَه بعالمٍ من الخيال ! و وصفها بالكلماتِ لن يكفي أبداً .
جلستُ على كرسي وأخذتُ أُمتّع ناظري بما أرى لعلي أشعرُ بالراحةِ والاسترخاء ، و بينما أنا غارقٌ في هذا الجمال و الروعة وإذ أرى رجلاً كبيرًا ” طاعنًا في السن” يتعكزُ على عُكازَتِه ويمشي رويداً رويداً باتجاهي ، ألقى عليّ التحية ، وقال لي ” أراكَ مستمعًا ” قلتُ لهُ “بالطبعِ! ومنْ مِنا يرى هذا الجمالُ الخلاب ولا يستمتع!” قَاطعني ضاحكاً وقالَ لي” كم عُمرك؟ ” استغربتُ السُؤال ، قال “لا أسألُ عن عُمرك الحقيقي، بل أسألُ عن عُمرِ سعادتك” ، صِدقاً هذا الرجل أثار فضولي وإعجابي في نفسِ الوقت ، أول مرة يصادفني كهذا الشخص، وحتى أنه لم يُطرح علي من قبل هذا السؤال ؟!
وأزيدُكم من الشعرِ بيتًا، لا أمتلك إجابة السؤال!!
نظرَ إلي مبتسماً ، أنا سأوضحُ لكَ السؤالَ أكثر ، لكن بعدَ أن أروي لكَ هذهِ الحكاية.
وجلستُ استمِعُ لهُ مُتشوقًا، لعلي أفهمُ عن ماذا يسأل ؟!
قال :
“يُحكى أن رجلاً يهوى الأسفار، وذاتَ يومٍ هَمّ بالدخول إلى إحدى المدن ، فكان أول ما واجههُ مقبرةُ المدينة.
وكان كلُ قبرٍ من هذهِ القبورِ يحملُ لوحةً كُتب عليها معلوماتٌ عن صاحبِ القبر.
وبعدَ قراءة بعضِ العبارات، أخذتهُ الدهشة!
فُلان بن فُلان مات ولهُ من العمرِ أربعُ سنوات.
الوزيرُ فلان بن فلان ماتَ وعمرهُ سنتان!
الأميرُ فُلان بن فلان مات وله من العمرِ سنة!
القاضي فلان بن فلان ماتَ وعمرهُ ستةُ أشهر!
فقال في نفسه “ماهذهِ المدينة التي أعمارُ أهلها بهذا القُصر؟!”.
ولمّا دخلَ هذه المدينةَ لم يرى سُكانُها سِوى أُناسٌ عاديون لا يختلفوا عن بقية البشر!
فلما استقر في هذهِ المدينة عدةَ أيام، واستأنس بأهلها، سألهم عن ما رآه في مقبرتهم وعن أعمارِ من دُفنوا فيها.
فأجابوه “إننا في هذهِ المدينةِ نُحددُ أعمارنا بحسبِ الأيامِ السعيدة التي عشناها، فيكتبُ كلُ شخصٍ في وصيته عمره
على أساس أيام السعادة التي عاشها.
فقام الرجلُ وقال” أُريدُ أن أعيشَ في مدينتكم، وإذا مِتْ فاكتبوا على قبري اسمي، مات قبل أن يولد”.
والآن هل فَهمت مقصدي من سؤالي ؟ هل تعلمُ كم هو عمرُ سعادتك ؟ هل تتذكرُ أيامَ سعادتك؟
حسنًا ، أتعلم ما معنى السعادة ؟ هل مرتْ عليكَ هذهِ الكلمةُ من قبل ؟
أم أن الحياةَ ومشاغلُها وأموالها وجشعُها لم تُعطيكَ فرصةَ أن تعرفَ معنى كلمة السعادة ؟
السعادةُ يا بني هى الفرحُ و الابتهاج و كلُ ما يجعلُ النفسَ فى بهجةٍ و سعادة .
السعادةُ هى طُمئنينة للقلوبِ و تعملُ على إراحة البال و تشرحُ الصدر .
والسعادةُ كلٌ منا لهُ منظورٌ مختلفٌ فيها ، إذا سألتني عن نفسي سأُجيبك ” أن تعودَ شريكةُ حياتي إلى الحياة ” فهي كانت الملاذُ الأول والأخير لي، كانت في حياتي حياة.
” تالله ما جفت دموعي بعدما … ذهب الردى بك يا ابنة الأمجاد
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى …هيهات ما ترك الوفاء بعادي
قد كدت أقضي حسرة لو لم أكن … متوقعا لقياك يوم معادي
فعليك من قلبي التحية كلما … ناحت مطوقة على الأعواد”
هذا ليس شِعري إنما للشاعر محمود البارودي ، وأصبح يضحكُ وينظرُ إلى طفلٍ صغيرٍ ويقول :
انظر إلى هذا الطفلِ الصغير ، كيف أن ملامحَ السعادةِ ارتسمت على وجههِ وكأنه عندما ملكَ بالونهُ الذي ب ٥ قروش ملكَ العالمَ بأسره ” السعادةُ تنبعُ من داخلِ الإنسان وليس من الخارج” .
انظر أيضاً إلى تلك الفتاتين، في مقتبلِ العمرِ تغمرهما السعادة، وتتبادلان الأحاديث، هُما صديقتان ولكن لِوهلةِ تظنُ أنهما أُختان وتمثلت السعادةُ لهن ” أن أشرب كوب شاي مع صديق في لحظةِ رضا”.
ما أجمل تلكَ الطفلةِ سعادتُها لا توصف، أتعلمُ لماذا؟
بل حتى قد توصف ” كسعادةِ قائدٍ عظيم أنقذَ بلاده”، هي تماماً نفسُ السعادة التي تشعرُ بها تلك الطفلةُ التي ترقصُ رقصتها الأولى.
يُذكرني ذلك الرجلُ الذي يصلي ، بقصةٍ قد قرأتُها ، يقولُ الراوي ” سافرتُ أكثر مما سافر السندباد، وشاهدتُ أعظمَ المدن والبحار، وقابلتُ حمقى يتصورون أنهم يوجهون العالم، ودخلت أغنى القصورِ وأفقرَ الأكواخ، واستمعتُ إلى منطقِ الفلاسفةِ وهذيان العُشاق، وجربت النجاحَ والفشل، والحب والكراهية، والغنى والفقر، وعشتُ حياةً مليئةً بالتجاربِ والسفر والقراءة والتأمل، لكننى أعترفُ بأنني لم أكتشف معنى السعادة إلا خلال هذه اللحظاتِ التى كُنا نسجدها فى بيتِ الله الحرام فى مكة”
ثم اقترب مني وقال “يابُني اليك سبعة نصائح ذهبية لعيش حياةٍ سعيدةٍ بعيداً عن الحزن والندم:
1- لا تقلق.
٢- اختر مهنةً تُحبها.
٣- لا تخف من الشيخوخة.
4 -اغتنم الفرصَ التي تقرعُ بابك.
5- أكثر من السفر.
6- عِش وكأن الحياةَ قصيرةً جداً.
7- السعادةُ اختيارك وليست نتيجة لظروفِ حياتك.
وذَهب؛ وأصبحت أصرخ وأقول له “ماذا لو لم أشعر بالسعاده؟!”
فرد مبتسماً وقال ” اختراعْ السعادة إختراع ، إياك أن يُكتبَ على قبركَ مات قبل أن يُولد” .