الكاتبة:- هبة احمد الحجاج
في يوم ما كنت عائدة من العمل ، كان الجو شديد البرودة وكانت الأمطار تنهمر وكأنها شلالات مياه عمودية سقطت على روؤسنا ، حتى أنني من شدة الأمطار لم أستطيع أن أرفع رأسي قليلاً لأرى الطريق لكنني كنت أرى أقداما مسرعة في الشوارع تركض وتركض وكأنها تريد أن تتخبى من أناس يلاحقونها ،وعلى ما أذكر لم أسمع سوا جملة وكأن الجميع اتفقوا عليها ” الله يجيب اللي فيه الخير ، وأخيراً وبعدما تبلل جسمي بالكامل ، ركبت سيارتي واتجهت إلى بيتي وهو ملاذي الوحيد في هذه الأجواء ،
أشعلت الراديو ، حتى استمع بالتفصيل إلى الأجواء في الأوقات القادمة لأنه لدي مناوبة في المستشفى ، اه لقد نسيت أن أعرفكم بنفسي؛ أنا طبيب أعمل في المستشفى متزوج ولدي شاب وفتاة ، ” ما علينا ” على قولتنا ، مسحت زجاج سيارتي حتى أرى الطريق بشكل أوضح ، وانا مشغول بهذا الامر وإذ أسمع مقولة غريبة بعض الشيء وهي ” عندما يفقدُ الإنسانُ قدرتَه على الإختيار يفقد إنسانيته.”
– ستانلي كيوبريك .
ياااااااااه ، كم هذه الكلمات أرجعتني عمرا من السنوات أرجعتني إلى سن السابعة عشر عاما ، تذكرت أنني كنت أحب من ذو صغري أن أكون كاتب ، كنت أحبذ كتابة المقالات والخواطر ، كنت أحلم أن أكون كاتبا مشهورا وكلماتي تصل إلى أرجاء العالم ، كان مثلي الأعلى في الكتاب العرب” نزار قباني ، محمود درويش” ، وكنت امتلك جميع كتبهم .
كنت أريد أن أصبح كاتبا لكن عائلتي لم تسمح لي ، وقرروا أن أكون طبيبا لكي يرفع رأسهم بين العائلة والعشيرة ، وقالوا لي ” دكتور يعني دكتور ، ما راح نسمحلك تطلع غير هيك ”
وقلت في نفسي مواسيا لها ” طبيب شيء جميل وراقي وله مركز بين الآخرين ، وأخذت أردد جميع العبارات والجمل التي تحمل المواساة .
قال تعالى “عسى ان تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم ”
وبالفعل دخلت كلية الطب وتخرجت منها وبتقدير ” جيد جداً ” ولكنني في أثناء دراستي أحببت ُفتاة وهي أحبتني
واخترتها أن تكون شريكة حياتي وخططنا ، كيف سيكون منزلنا المتواضع وما هي ألوانه وكيفية بناءه ، حتى أننا أيضا حددنا كم طفلنا سننجب وأسميناهم أيضا ، قد يكون والدي ممتنا لها لأنني لولاها لم ولن أحب كلية الطب وكتب الطب ولا حتى لقبي كطبيب ، بل أيضا كنت ممتنا لأبي لاختياره لهذا التخصص الذي لم أكن أريده .
وبعد أن تخرجت وأصبحت طبيباً ، جلست مع العائلة مساء ، أذيع لهم هذا الخبر المفرح لأنني أنا كنت الابن الأكبر ، فإنا كنت العريس المنتظر ، لكنني لم أتوقع أن هذا الخبر سيصبح كارثة بل طامة وبالأحرى عندما قلت لهم أنني ، أحب فتاة وأريد الزواج منها ، صرخ أبي ذلك الصوت وكأنه زئير أسد وقال ” بلا حب بلا كلام فاضي، أنا اخترت البنت اللي راح تتزوجها وما في حكي بعد هالحكي”
صدمت وخذلت وقلت في نفسي ” كيف هذا ؟، ألا أستطيع أن اتخذ هذا القرار لوحدي ، هذا القرار يجب على الجميع أن يختاروه معي بحجة ” النسب والحسب والأخلاق والجمال “و بحجة ” أنت ما راح تعرف تختار بنت بتشرفنا وبتشرف عيلتنا ” حسنا ،
لم يراعي أحدكم من ناحية القلب والمشاعر والأحاسيس ، لماذا ؟!، وأنا !!
أنت في هذه الحالة لا تستطيع سوا تقبل الأمر الواقع ، خاصة بعد جوابها ، عندما قلت لها ” سأطلبك من أهلك وحدي ، وسأتحدى جميع الظروف لا تقلقي، قالت ” لا أهلي لا يقبلون بذلك ، الله يسعدك ويهنيك ويبعتلك الأفضل مني وأقفلت سماعة الهاتف ، وعندها شعرت أن حياتي أقفلتها معها .
وصلت بيتي ونزلت من السيارة والسماء منهمرة وكأنها شلالات ، فتحت باب المنزل على عجل ، ودخلت سريعا وضعت رأسي تحت الماء ، لعلي أطرد هذهِ الذكريات المؤلمة ، لكن المياه تنهمر على رأسي وعيوني مغمضه بعض شيء ، تذكرت موافقتي على العروس التي اختاروها لي ، تذكرت عباراتهم ” بدنا نفرح فيك ، بدنا نشوف أولادك قبل ما نموت والكثير من العبارات المؤثرة ، تذكرون أسلوب المواساة الذي استخدمته عندما دخلت كلية الطب هو ذات الأسلوب ” قلت في نفسي ، لعلها غير مناسبه لي ، وعلى فكره ليس كل من أحب أخذ حبيبته ، أغلب الناس لم يتزوجوا حبيباتهم ، لم تقف علي ، أنا بالذات ، لعلها أفضل لعلها تحبني أكثر ، لعلها ولعلها ولعلها ، وحتى لو لعلها ، لكنني أريد محبوبتي ،
ولكن أواسي نفسي بقول ” الخيرة فيما اختاره الله”.
وأتى اليوم المنتظر بالمناسبة المنتظر لعائلتي وليس لي ، وقالت العائلة لي” نعلم أنك كنت لا تريد الزواج منها ولكن هذه بنت الحسب والنسب ، يجب عليك أن تحترمها وإياك أن تزعجها بكلمة ويجب عليك أن تحبها ، كان كل الكلام واضح لي ويجب أن أكون كذلك ، لكن أثار انتباهي كلمة ” أن تحبها” ابتسمت وقلت في نفسي ، هل حبيبتي أبقت لي مشاعر محبة ، هي لم تترك قلبي بل أخذته معها وذهبت .
جففت شعري من الماء ، وجلست في الصالون ورفعت رأسي وإذ أرى صورة ابني الأكبر ، تذكرت أنه في ولادته ، كنت فرحا جدا بقدومه كنت أريد أن أسميه اسما أحببته كثيرا وكنت أريد أن اتكنى به ، لكنني وأنا احتضنه بين ذراعي قالوا لي” طفل الأول يتسمى على اسم الجد ،
وهذا الموضوع غير قابل للنقاش ، وضعت طفلي في سريره وابتسمت وخرجت من الغرفة وأنا أتسائل ، ما هو القرار الذي اتخذته أنا لوحدي ، لا تخصصي ولا حتى شريكة حياتي وعلى أبسط قرار اسم ابني، أنا لم أعارض على اسم ابي ، لا معاذ الله ، لكنه الزمن اختلف واسم والدي قديم ، قديم جدا ، كنت أخاف أن ياتي ولدي ويقول لي ” لماذا اسم كذا ؟ ماذا سأقول له ؟ كيف سأقنعه .
وبالفعل أتى وسألني ” وقال لي ” بابا لماذا اسمي كذا؟ قلت له ” على اسم جدك ، أنت يجب أن تحمل اسم جدك فهمت ، قال لي لماذا أنا ؟! لماذا لم يكن اسمي على اسماء إخوتي الباقين ؟!
قلت له ، ألم تسمع قول الشاعر الكبير محمود درويش ”
أكبر تنازل تقدمه في حياتك هو أن تتأقلم ..
عود نفسك على أن تتأقلم على جميع الظروف ، حتى تستطيع أن تكمل حياتك يا بني .
نظر لي نظرة فيها غرابه وقال لي ألم تسمع يا أبي ماذا قال الشاعر أبو القاسم الشابي” من يهب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر
نظرت له وقلت في نفسي ” ابني أشجع مني” وافتخرت في نفسي أنه ابني.