هبة أحمد الحجاج
في يومٍ ما؛ وصلتني رسالةً عبرَ البريد الإلكتروني ، مكتوبٌ فيها ” السلامُ عليكم أيها الطبيبُ النفسي ، اسمحْ لي أن أطرحَ عليكَ هذا السؤال ” كثيراً ما سألتُ نفسي، أيهُما أسوأ : المرض أو الوفاة أو حياتي بهذا الشكل؟ ”
لا أُخفيكم صُدمتُ بهذهِ الرسالة، لأنني لستُ طبيباً نفسي! ودُهشتُ أكثرْ بهذا السؤال، وشعرتُ كأنما هذا الشخص قدْ وصلَ في حياتهِ إلى مرحلةِ ” اليأس “، وإذا لم أُساعدهُ سوفَ يتخلصُ من حياتهِ بالتأكيد، فقررتُ أن ألعبَ دورَ الطبيبِ النفسي على قدرِ ما أستطيع ، فأخذتُ أكتبُ لهُ وقلتْ “مِنْ المُهم أن تعرفَ ما هي شخصية المريض أكثر مما تعرفْ ما هو المرض الذي يحملهُ المريض”.
فكان ردهُ ” لم أفهم” .
قلتُ لهُ ” ستفهمُ إذا قابلتني في الموعدِ المُحدد”.
و وافقَ على ذلك ، وأتى.
كان شابًا في مقتبلِ العُمر، وواضحٌ عليهِ علاماتُ اليأس والإحباط، ولكن في عينيهِ بصيصٌ من الأمل شعرتُ به ، وتأكدتُ من ذلكَ عندما وافق على مقابلتي، وكأن مقابلتي ستُعيدُ لهُ الحياة .
أخذته على الفورِ بجولةِ وقلتُ له” أذكرُ أنك قلتَ لي أيهما أسوء المرض أم الوفاة؟ وضحكتُ بشكلٍ سخيف أم حياتكَ بهذا الشكل؟ لنرى إذاً” .
ذهبنا إلى المستشفيات، كانت هناكَ أنفاسٌ تضيقُ بھا الحناجر وأرواحٌ مُتعبةٌ وأجسادٌ مُنھكةٌ من شدةِ المرض، نظرتُ إليه وقلت ” إسأل هذا المريض أيُهما أسوء حياتُك بهذا الشكلِ أم مرضهُ الذي يعاني منه ؟ ”
فرأيتهُ يقتربُ من ذاك المريضِ الذي لا يستطيعُ أن يتفوه بحرف ويقولُ له ” لا تيأس من روحِ الله، ولا تقنطْ من رحمةِ الله، فالمُستقبلُ أجمل إن شاء الله، حينها تنعم بصحةٍ أوفر تَجِدّ فيها أكثر في العملِ الصالح، والمسارعةِ في الخيرات، وهو أبسط ما تُقدمه لشكرِ الله على نعمةِ الشفاء” .
خرجنا على الفورِ حتى نُكمل نصفَ إجابة ذاك السؤال ، ولكن في منتصفِ الطريق، أردتُ أن أؤكدَ عليهِ أن النصفَ الأول من السؤال قد تمتْ إجابته ، كان صمتهُ لي ” كافياً بعضَ الشيء “، قلتُ له” الآن إلى الشقِ الثاني من سؤالك ألا وهو الوفاة” .
كانت هناك أمٌ قدْ فقدتْ ابنها، وكانت تَرثي ابنها وتقول ”
إذا ذكرتُك يومًا قلتُ: واحـــزنـــا
وما يرد عليّ القول “واحزنا” !؟
يا سيدي ومراح الروح في جسدي
هلا دنا الموت مني حين منك دنا
يا أطيب الناس روحا ضمها بدنٌ
أستودع الله ذاك الروح والبدنا!”
قلتُ لهُ تَشجعْ ولا تَخف واطرحَ عليها سؤالك ” أيهما أسوء الوفاة أم حياتي بهذا الشكل” ، نظرَ إلي واقتربَ منها مواسيًا ” هي الصدمةُ الأولى فمنْ بان صبرهُ على هولِ مالاقاهُ تضاعفَ أجره”.
نظرتُ إليه وقلتْ” أترى تلك ، هناكَ مقبرة ، وتعلمْ في المقبرةِ لا يُوجد سوى القبور ، هل تريدُ أن تسأل أنت الإنسان الحي “الميت” أيها أفضل حياتُك أم الموت؟ ”
لم يُجيبْ، وأنا متأكد لا يمتلِك الإجابة ، أكملتُ أنا الحديث وقلتُ له :
” هؤلاء الأموات كانوا أحياء مثلنا تماماً ، مرتْ عليهم الأيامُ السوداء قبل البيضاء، وقد تكونُ أيامهم السوداء أكثر من أيامِنا ، لكنهم عاشوا الحياة وصبروا عليها وكابدوا العيش فيها ، وأيضاً ابتسموا وضحِكوا وفرحوا ، كانوا متأكدين أنّ أسوءَ يومٍ في حياتِهم لنْ يعيشوه ، أتعلم ما هو ” يوم وفاتك” هذا أسوءُ يومٍ في حياتك ولن تعيشه ،
هل ترى أن هناك يوم أسود من ذلك الذي لن تعيشه؟ ”
ابتسمَ لي وتَشكرني وذهبْ ، وقبلَ أن يذهب قلتُ له” يجبْ أن تَعلمْ قبلَ أن تَذهب ” أنني لستُ طبيبًا نفسي” ،
ذُهلْ وقال لي” كيفَ ذلك؟”
قلتُ له ” لا شيء ، ولكن كما قال عبد الله القصيمي :
إنك أيها العقلُ أنتَ الطبيب وأنت المريض، أنتَ المريض الذي يُرجى ويُطلبُ منهُ الدواء والشفاء”.
تَبسمَ وقال لي ” الكلمةُ سهم يُسددهُ العقلُ إلى قلوبِ وعقولِ الآخرين، فتبني أو تجرح، أو تُرشد أو تـقـتـل