العَالم.. كلُ العالمِ بانتظارِ “الصفر”
هبة أحمد الحجاج
يقولُ الإمامُ الشافعي: لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ وأُظْهِرُ الْبِشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضهُ كما إنْ قدْ حَشى قَلْبي مَحَبَّاتِ النَّاسُ داءٌ وَدَواءُ النَّاسِ قُرْبُهُمُ وفي اعتزالهمُ قطعُ المودَّاتِ.
لا أُخفِيكُم بعدمَا قرأتُ هذهِ القَصِيدة ، شعرتُ أنهُ يجب علي أنّ أُقَوي الرَوابِط والعَلاقات الاجتماعية بيني وبينَ الآخرين وعلى رأي المَثل ” الجنة من غير الناس ما بتنداس “، فقررتُ على الفورِ أن اتصلَ بأشخاصٍ قدْ أكُونُ قَصرتُ في حَقهم بعضَ الشيء ، لأننا في زمنِ الكُورونا ويُمنعُ الاختلاطُ أو حَتى الاقتِرابِ مِنَ الآخرين ، وعِندما اتصلتُ تلقيتُ رداً على الفَورِ ” رَصيدُكَ تحتَ الحدِ الأدنى (صفر) يُرجى إعادةُ شَحنِ رصيدك “، لا أعلمُ لِماذا انتباني شعورُ ” صدمةٍ ممزوجةٍ بالضحكِ”، وتَذكرتُ مثلاً مُضحكًا ” اجت الحزينة تفرح ما لقتها مطرح “، أنا كنتُ أريدُ أن أُقوي هذه العَلاقات ولكنْ للأسف ” رَصِيدي لمْ يسمحَ لي” كانَ ( صفر).
وإذ أسمعُ جاري يقولُ: ” صفر ، صفر، صفر” أنا أفلَستُ لمْ يَتبقى منْ رَصيدي شيء ، لوهلةٍ شَعرتُ أنهُ مثلَ حالتي بسببِ رَصيدهِ لكنْ ” منْ شاف مصيبة غيره هانت عليه مُصيبته”، رَصيدهُ ليسَ الشحنْ بل ” حِسابهُ البَنكي “.
وهَاهُو ذلكَ الطفلُ الصغيرُ ، يُمسكُ بيدهِ عَلامة امتحانهِ و الدموعُ تَذرِف من عَينيه ، و السّبب “خُتمَ على ورقته رقمُ ( صفر)” ، وهذا يدلُ على فَشلهِ في هذهِ المادة، ماذا سيقولُ لأمهِ؟ كيفَ يتصرفُ مع أبيه؟
شعرتُ بالحزنِ عليه، كنتُ أُريدُ أن أُخففَ عنه، أن أجلسَ بجانبهِ و أُوسيه ، لكنني نَظرتُ إلى تلكَ الفَتاةِ أتيةٌ من بعيد ، يرتَسمُ على ملامِحها الحُزن، مَمزوجٌ بالأسفِ والحَسرةِ وخَيبة الأمل، ضربتْ كفاتَ يَداها وقالتْ ” صفرَ اليَدين ” لم أعْثر على عَمل ” متل ما رحتي متل ما اجيتي”.
شَعرتُ لبُرهةٍ منَ الزمنِ أن هذا الرقمِ المشّؤوم كان طامةً لكلٍ مِنّا على مُستواهُ الشخصي .
تَذكرتُ قولَ أليف شفق “عشْ هذهِ الحياةَ خفيفةً وفارغة مثلَ الرقم صفر! مثلَ هذا تماماً “.
حيثُ أنها شبهتْ رقمَ صفر بالشيءِ الفارغِ والمَعدوم، ليسَ له قيمةٌ ، وهي بذلك أحسنتْ الوصف ، لأنه بسببِ ” الصفر” لم أستطع أنْ أتواصلَ مع الآخرين ، بسببِ” الصفر” ذلك الرجل قد تتدمرُ حياتهُ وأعماله.
بسببِ ” الصفر” ارتسمتْ على وجهِ ذلك الطفلِ البريء ملامحُ الحزنِ والفشل.
بسببِ ” الصفر” شعرتْ تلكَ الفتاةُ أنها سيئةُ الحظ.
هذا الرَقم ” الصفر” قادني لكي أتعرفَ على تاريخِهِ، كيف تكون قيمته لاشيء، ومعدوم وليس له قيمةٌ ويفعلُ فينا كلَ هذا؟! شعرتُ للحظةٍ أنّ هذا الرقم صعبْ ولكن كيف ؟ ولماذا؟ لا أعرف !
سألتُ نَفسي من هو أول منْ اخترعَ الصفر؟
وجدتُ أن أولَ منْ اخترعَ الصفرَ هو عالمُ الرياضياتِ العربي الكبير” محمد بن موسى الخوارزمي” ، وقيلَ أنهُ هو الذي ابتكرَ الصّفر وجَعله عدداً مُهماً في العملياتِ الحسابية .
واستعملَ العربُ النقطةَ لتدلّ إلى الصّفر ، وبيّنوا دوره في العمليات الحسابية ، وأهميّتهُ في تحديدِ مراتبِ العشرات والمئاتِ والألوف . ويقولُ الخوارزمي : في عملياتِ الطّرح ، إذا لم يكنْ هُناك باقٍ نضع صفراً ولا نتركُ المكانَ خالياً لئلّا يحدثُ لبسٌ بينَ خانةِ الآحاد وخانة العشرات .
ثمّ إنّ الصّفر يجب أن يكونَ من يمينَ العدد ، لأنّ الصّفر من يسار الاثنين ” مثلاً – 02 –” لا يغيّرُ من قيمتها ، ولا يجعلها عشرين. وساعدَ الصّفرَ في تسهيلِ المُعادلاتِ الجبريّة والحسابية . وعن العرب انتقل إلى أوربا . وكان العرب نقلوا الأعدادَ ، بما فيها الصّفر ، من الهند . وقيلَ إنّ العرب استعملوا الصّفر مكانَ الفراغ الذي كان الهُنود يتركونه للدّلالة إليه .
وسألتُ نفسي مجدداً ماذا يعني الصّفرُ عند العرب؟!
أصبحَ الصفر ينعت عندَ العربِ بالخير و المظفرة، فلقدْ كانَ الصفر في العصرِ الجاهلي يعتبرُ شهراً من أشهرِ النحسِ عليهم. واختُلف في أصلِ التّسمية ، فقال البيروني : (لامتيازهم في فرقة تسمّى صفريّة ، وسمّي الصّفر صفراً والسّبب وباء كان يعتريهم فيمرضون ، وتصفرّ ألوانهم) .
ويعتقدُ عدد من الباحثين أنّ الصّفر يشتقّ من فكرة الخلوّ والفراغ ، فجاء في اللسان – تحت كلمة صفر – (أنّ العرب سمّوا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من أغاروا عليه صفراً من المتاع) . ويقالُ في العربية :عاد صفرَ اليدين .
وعندما قررتُ أن أتعمقَ أكثر عن الصفر دُهشت من شرحِ «كابلان» للصفر بطريقةٍ أكثرَ شاعرية، فيقول” إن الصفر مثل الأفقِ البعيد الذي نراه في اللوحات، فهو يوحد الصورة” . يقول: «إذا نظرتَ إلى الصفرِ لا ترى شيئًا، لكن إذا نظرتَ من خلاله، ترى العالم، فهو الأُفق».
شعرت لوهلةٍ أنني من شدةِ التفكير لا أستطيعُ أنْ أصلَ إلى نتيجةٍ وقلتُ في نفسي ” يا لهُ من رقمٍ صعب! “.
ووضعتُ رأسي بينَ يديّ لعلي أُريحُ نفسي قليلاً من التفكيرِ ولكنني أيدتُ الفكرةَ “أننا لا نُولدُ مُدركينَ لفكرةِ الصفر، فنحن نتعلمهُ، والأمرُ يتطلبُ وقتًا” .
نعم نعم ، نحنُ نتعلمه ، قد تتساءل وتقولُ لي ، كيفَ نتعلمهُ وكيفَ أن الأمرَ يتطلبُ وقتاً؟!
في الزمنِ هذا أتى الصفرُ ليقولَ لنا ” دوامُ الحالِ منَ المُحال “.
أنا لستُ قيمةً معدومةً وليستْ لا شيء، ولستُ فارغًا بل إنّ الحياةَ في زمنِ الكُورونا تحتاجُ قيمةَ الصفر.
الحُدود مغلقةٌ ولن تُفتحَ حتى تُصبحَ القيمةُ “صفر” ، المدنُ مَعزولةٌ بأكملها ولن يُفكَ العزلُ إلى أن تُصبحَ القيمةُ “صفر” ، مُنع التجوالُ العام ولن يتم فتحُ أي تِجوال إذا لم تعود القيمةُ “صفر” ، حتى المنازلُ لم تعدْ آمنة، فالوباءُ يتربصُ بالجميع.
المساجدُ تُغلق وخُطب الجمعةِ تتوقف، الكنائسُ تقفل والصلاةُ معلقة، لا سلامَ ولا تحية، لا أحضان ، لا اجتماعات ولا تَجمُعات، لا مُناسباتُ أفراح ولا مراسيم عزاء! حتى تعودَ القيمةُ “صفر”.
نعم نعم ، وكأنّ هذا الرقم ” الصفر ” يقولُ لنا لنْ تعودَ الحياة كَما كانتْ ، لنْ يتعافى الإقتصادُ العالمي، لن يستطيعَ المرءُ السفرَ بالطائرات، لن يستطيعَ الجُلوس آمناً في السينما والمسرح، لن يجرؤ على حضورِ المُناسبات الرياضية، لن يتشجعَ لدخولِ المقاهي والملاهي، مظاهرُ الحياةِ سَتنقلب إذا لم يُسجل العالمُ بأكملهِ قيمةَ ” صفر”.
وإذا سألتني مرةً أُخرى:
ولكن ماذا عن الصفر؟
سأقول لك :” يتطلبُ فِهم الصفرِ استيعاب أنَ غيابَ الشيء هو شيءٌ في حدِ ذاته”.
رفعتُ رأسي إلى السماءِ وقُلت ” لن ينسانا الله ، ما بعد العسر يسر والقيمة صفر .